رسخت قمة روسيا-أفريقيا 2023، في سان بطرسبورغ، عودة روسيا إلى أفريقيا، أو عودة أفريقيا إلى حليفٍ قديم منذ أيام الاستقلال. وكانت قمةٌ مماثلة قد التأمت بمنتجع سوتشي قبل أربعة أعوام تقريبًا. وبين القمتين، جرت مياه كثيرة من تحت الجسور، أبرز معالمها اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، وإرهاصات اصطفافٍ عالمي جديد في معسكرين، في أحدهما روسيا والصين وتقود الآخر الولايات المتحدة، وظلال «حربٍ باردة جديدة» تُخيم في الأفق. وهذه التغيرات جميعًا، ولاسيما حرب أوكرانيا التي ولجت مرحلةً من التصعيد عالي المستوى في الأيام الأخيرة، قد سرّعت من وتيرة إعادة توجيه السياسة الروسية تجاه القارة الأفريقية.

وقد شهدت قمة سان بطرسبورغ حضورًا أفريقيًا كبيرًا، تضمن نحو 91% من الدول الأفريقية، شارك نصفها برئيس دولة (17) أو رئيس حكومة، رغم «ضغوط غير مسبوقة» مارستها الدول الغربية لثني الأفارقة عن الحضور.

واتضح أنّ روسيا تسعى لتحقيق عدة أهداف من القمة، أهمها: أولًا، الحصول على دعمٍ سياسي ودبلوماسي هي في أمسّ الحاجة إليه، بعد أن عمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون إلى فرض عزلة دولية على موسكو منذ العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ومناكفتها الهيمنة الأميركية والغربية على العالم. ثانيًا، طمأنة الدول الأفريقية على أمنها الغذائي بعد انسحاب روسيا من اتفاقية حبوب البحر الأسود.

ثالثًا، عقد شراكات متنوعة، استراتيجية وعسكرية واقتصادية، وطويلة الأمد مع الدول الأفريقية في مجالات الاقتصاد والزراعة والأمن، ما يتيح لروسيا التحايل أو الالتفاف على العقوبات الاقتصادية الغربية غير المسبوقة عليها منذ فبراير 2022، على الأقل. رابعًا، التمهيد لتشييد نسق دولي تعددي على المستويين السياسي (القطبية أو القيادة الدولية)، والاقتصادي (إنشاء نظام اقتصادي عالمي جديد).

وقد تضمن إعلان سان بطرسبورغ، الذي صدر في ختام القمة، عدة بنودٍ مهمة تُسهم في تحقيق الأهداف المذكورة آنفًا، فقد نص البيان على استكمال عملية إنهاء الاستعمار في أفريقيا، والمطالبة بتعويضات عن الأضرار الاقتصادية والإنسانية التي لحقت بالدول الأفريقية نتيجة للسياسات الاستعمارية، بما في ذلك إعادة الممتلكات الثقافية التي جرى الاستيلاء عليها أثناء الحقبة الاستعمارية.

وشدّد الإعلان على معارضة كل أشكال التمييز وعدم التسامح، ولاسيما «رهاب الأفارقة» و«رهاب روسيا»، ودعا إلى تعزيز نظام دولي متعدد الأقطاب، والتمهيد لنظام اقتصادي عالمي جديد عن طريق الانتقال بشكلٍ منهجي إلى العملات الوطنية، ولاسيما الروبل، في التسويات المالية للمعاملات التجارية بين روسيا وأفريقيا.

واتُّخِذَت خطوة مهمة لمأسسة العلاقات بين روسيا وأفريقيا، عن طريق انتظام قمة روسية-أفريقية كل ثلاثة أعوام، وإنشاء «آلية شراكة وحوار» تتناول القضايا الأمنية، بما في ذلك مكافحة الإرهاب والأمن الغذائي والتغير المناخي.

والواقع أنّ تعزيز علاقات روسيا مع أفريقيا يأتي على حساب نفوذ دول أخرى، ولاسيما فرنسا، وعبر وسائل شتى منها وجود مجموعة «فاغنر» شبه العسكرية في الدول الأفريقية من ليبيا شمالًا إلى أفريقيا الوسطى جنوبًا، واتفاقات للتعاون العسكري (تصدير الأسلحة)، وحملات إعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي، وأخيرًا توفير الحبوب للقارة بدون كلفة إضافية أو مجانًا للدول الأفريقية (وعد بوتين ست دول إفريقية بتزويدها الحبوب بالمجان في الأشهر المقبلة)، بل والمساعدة في الوصول إلى السيادة الغذائية لأفريقيا.

*باحثة - مركز تريندز للبحوث والاستشارات